وجدة اليوم تستعيد عافيتها وتعود بقوة إلى واجهة التحول العمراني، بدعم من إرادة جماعية تسعى لتدارك ما فات وفتح آفاق جديدة تعكس تاريخ المدينة وتستجيب لتطلعات سكانها.
وفي هذا السياق شكلت سنة 2025 نقطة تحول مفصلية في تاريخ وجدة، حملت معها انطلاقة جديدة عنوانها دينامية عمرانية متجددة تهدف إلى إعادة ترتيب البيت الداخلي للمدينة واسترجاع بريق فضاءاتها العامة. فقد أُطلقت عدة برامج وخاصة البرنامج الاستدراكي ليعيد الحياة إلى الساحات الكبرى التي تُعتبر القلب النابض لهوية المدينة ورمزاً لتاريخها العريق.
ومن أبرز ملامح هذه الدينامية المتجددة، مشروع طموح لإعادة تهيئة إحدى عشرة (11) ساحة مركزية، وُضع في إطار تنسيق مؤسساتي محكم يجمع بين ولاية جهة الشرق، ومجلس عمالة وجدة-أنجاد، وشركة التنمية “وجدة للتهيئة”، باعتبارها صاحب المشروع المنتدب. ويأتي هذا المشروع في سياق رؤية شمولية تهدف إلى ترميم الذاكرة الحضرية، وتعزيز جاذبية المدينة على المستويين العمراني والاقتصادي، من خلال إعادة الاعتبار لفضاءاتها العمومية، وربط الماضي العريق بالحاضر المتجدد.
تشهد مدينة وجدة اليوم تقدماً ملحوظاً في أشغال إعادة تهيئتها. ولا تقتصر هذه الأوراش على تحديث البنية التحتية وترميم الأرصفة وتعزيز شبكة الإنارة العمومية، بل تمتد لتشمل توسيع المساحات الخضراء، وإعادة إحياء النافورات التي ظلت معطلة لسنوات.
وتشمل هذه الأشغال كذلك عمليات تشجير وإعادة تأهيل الغطاء النباتي، إلى جانب تجهيز الساحات بمقاعد عصرية وأماكن جلوس مريحة. كما تم إدماج تجهيزات حضرية حديثة، من بينها أنظمة مراقبة ذكية، وممرات تنظيمية تضمن الانسيابية والأمان. وهو ما يجعل هذه الفضاءات أكثر جاذبية وأماناً، ويؤهلها لاستعادة دورها الحيوي في الحياة اليومية للساكنة والزوار على حد سواء.
ساحة «جدة».. قلب وجدة يعود للحياة
وسط شارع محمد الخامس النابض، تقف ساحة «جدة» أو كما يسميها البعض “البحر”، إحدى الفضاءات الرمزية البارزة بمدينة وجدة شاهدة على تاريخ المدينة، محاطة بمعالم بارزة مثل قصر العدالة والبريد المركزي. اليوم، تعود هذه الساحة لتستعيد بريقها، حيث تتجلى معالم التحول العمراني من خلال تجديد الأرضيات، وتحديث الإنارة العمومية، وإنشاء نافورة عصرية بمؤثرات صوتية وضوئية، كل ذلك في إطار رؤية تأخذ بعين الاعتبار تعزيز الغطاء النباتي وتوفير تجهيزات حضرية تتماشى مع رمزية الموقع.
ساحة سيدي عبد الوهاب.. وساحة باب الغربي : الذاكرة التي تنبض من جديد
في قلب المدينة العتيقة، تنبعث الحياة من جديد في ساحة باب سيدي عبد الوهاب، التي شكلت على مرّ العقود فضاءً شعبياً نابضاً بالتبادل التجاري والتفاعل الثقافي، ومسرحاً لفنون الحلقة والحكاية الشعبية. ويأتي مشروع إعادة تأهيل هذه الساحة ليُعيد إليها رونقها، و بذلك، تظل الساحة مركزاً اقتصادياً وثقافياً حياً، يعكس روح وجدة العميقة ويمتد بجسوره بين الماضي والحاضر.
وبخصوص ساحة باب الغربي، الممتدة بمحاذاة جزء من سور المدينة العتيقة، فهي لا تُعد مجرد معلمة تاريخية، بل تُشكل فضاءً حيًّا يحتضن الذاكرة الجماعية لوجدة، وتمثل نقطة تجمع حضرية بارزة في النسيج العمراني للمدينة. وفي إطار مشروع تأهيل شوارع يعقوب المنصور، إدريس الأكبر وسيدي معافة، تم الشروع في أشغال إعادة تأهيل ساحة باب الغربي، بهدف إعادة الاعتبار لهذا الفضاء الرمزي. وتشمل هذه الأشغال تهيئة المساحات الخضراء، وتعزيز الساحة بتجهيزات حضرية متناغمة مع الطابع التاريخي للموقع، بما يساهم في تحسين جودة الاستعمال اليومي، وخلق بيئة متجانسة تُزاوج بين البعد التراثي والوظيفة المعاصرة لهذا الفضاء العمومي.
تتمحور الأشغال في كلتا الساحتين حول إعادة ترتيب المجال بما يحافظ على خصوصية الحلقات الثقافية والأنشطة التجارية، إلى جانب غرس نباتات تتناغم مع الفضاء التاريخي، وتجديد البنية التحتية لتسهيل تنقل الزوار، مع تركيب العلامات التوجيهية والتجهيزات الحضرية لضمان راحة المستعملين.
ساحة المغرب.. متنفس هادئ وسط صخب الأسواق
بين طريق مراكش وبقايا الأسواق الشعبية النابضة بالحياة، تمتد ساحة المغرب كفسحة حضرية تمنح المارة والعابرين لحظات من الراحة والتأمل والتلاقي. وتأتي أشغال إعادة تأهيل هذا الفضاء في إطار جهود متواصلة لإرساء توازن متناغم بين الدينامية التجارية النشيطة والموروث الاجتماعي والثقافي للساحة. وتشمل أشغال التهيئة تنسيق المساحات الخضراء، إعادة تأهيل الممرات، إلى جانب تركيب نظام حديث للإنارة العمومية الاقتصادية بما يعزز جاذبية الفضاء ويُحسّن من جودة استعماله اليومي.
ساحة ولي العهد الأمير مولاي الحسن… مزيج بين الرمزية الوطنية والمكانة الوظيفية
في واحد من أهم المحاور الحيوية بوجدة، تتربع ساحة ولي العهد الأمير مولاي الحسن كواجهة حضرية تجمع بين الرمزية الوطنية والمكانة الوظيفية. مشروع تهيئتها يشمل تحسين الإنارة وتنظيم السير، وخلق مساحات خضراء، مع إضافة لمسات جمالية تجعلها فضاءً يليق بمقامها كرمز وطني وواجهة حضرية في قلب المدينة.
ساحة روما… فضاء جامعي بنَفَس حضري جديد
في محيط جامعة محمد الأول وعلى امتداد شارع محمد السادس، تستعيد ساحة روما دورها كفضاء عمومي حيوي يخدم الطلبة وساكنة الأحياء المجاورة، في إطار رؤية حضرية منفتحة على المستقبل. وتشمل أشغال إعادة التهيئة، و تنظيم المجال بما يحقق الانسجام بين وظيفتها كفضاء للعبور والراحة، وطابعها الجامعي الحيوي.
وقد تم في هذا الإطار تعزيز الغطاء النباتي عبر عمليات تشجير منتقاة بعناية، وإعادة تنسيق المساحات الخضراء لتوفير ظلّ طبيعي وراحة بصرية. كما شملت الأشغال تحديث شبكة الإنارة العمومية، لتوفير بيئة آمنة.
أربع ساحات تعود للحياة ضمن مشروع “محمد الخامس”
تُعد الساحات الأربع مكونات حضرية أساسية في النسيج العمراني للمدينة، فهي ليست مجرد فضاءات عامة مفتوحة، بل تُشكل محاور نابضة بالحياة تعكس العلاقة بين ماضي المدينة العريق وحاضرها المتجدد. تسهم هذه الساحات بشكل مباشر في تعزيز إشعاع المدينة عمرانياً وجمالياً.
· ساحة 9 يوليوز: متنفس اجتماعي يومي، تتوسط بين معلمين بارزين هما الكنيسة التاريخية “سان لويس” والمسجد “فاطمة أم البنين”، ما يجعلها نقطة التقاء ثقافي وروحي فريدة.
- ساحة 16 غشت: ساحة تحمل ذاكرة المقاومة الوطنية ضد الاستعمار، فتظل شاهداً على نضال وجدة والمغرب من أجل الحرية.
- ساحة 18 نونبر (الديوانة): هي فضاء مفتوح يقصده السكان من مختلف الفئات للتمتع بلحظات من الهدوء والاسترخاء وسط أجواء من الطمأنينة. تمتاز الساحة بتصميمها المتناغم، حيث تتوزع المساحات الخضراء بعناية، وتُظلّلها الأشجار، في حين تنساب الممرات بسلاسة لتدعو الزائر إلى نزهة هادئة أو جلسة تأمل على إحدى المقاعد المنتشرة.
- ساحة للا مغنية: تقع عند مدخل الحي الصناعي، وتستعيد اليوم مكانتها كفضاء عمومي حيوي، بفضل مشروع تأهيلي طموح يروم تحويلها إلى وجهة مفضّلة للراحة والاستجمام، تجمع بين الجمالية والراحة في قلب بيئة حضرية.
هذه الساحات الأربع، رغم اختلاف أدوارها الرمزية والاجتماعية، تشترك في رؤية موحدة للتهيئة ترتكز على تنظيم الفضاءات العمومية، إدماج الغطاء النباتي، وتوفير تجهيزات حضرية عملية تساهم في تحسين جودة الحياة.
ساحة باستور.. وجه حديث في قلب وجدة
في قلب شارع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، تعود ساحة باستور (زيري بن عطية) لتستعيد إشعاعها كأحد أبرز معالم وجدة الحضرية. يشمل مشروع تجديدها وحدات متناسقة وتجهيزات عصرية، من بينها نافورة حديثة ومساحات خضراء مزروعة بعناية تعكس التناغم الجمالي للفضاء. كما يتم توفير تجهيزات حضرية وذكية تسهم في تعزيز راحة الزوار وأمنهم. ومن أبرز مكونات المشروع، إدماج منحوتات فنية تعكس الهوية الثقافية والتراثية للمدينة،
ساحة 3 مارس.. من جرح الذاكرة إلى رمز الحياة
تحمل ساحة 3 مارس اسمًا يخلّد واحدة من أصعب المحطات في تاريخ مدينة وجدة، وهي أحداث 3 مارس 1948 التي تركت أثرًا عميقًا في الذاكرة المحلية. ومن خلال ترسيخ قيم التعايش، تستعيد الساحة اليوم دورها كفضاء عام نابض بالحياة، بفضل أشغال إعادة التأهيل التي شملت تطوير الإنارة، وتعزيز التجهيزات، مما يعيد إليها حيويتها ومكانتها كرمز للتلاحم الاجتماعي والذاكرة الجماعية للمدينة.
إن هذه المشاريع، التي تشرف عليها مختلف المصالح المحلية بشراكة مع فعاليات متعددة، تعكس وعياً متقدماً بأهمية الفضاء العمومي في تعزيز جودة الحياة الحضرية، وتؤكد أن مدينة وجدة ماضية بثبات نحو مستقبل حضري متوازن يربط الماضي بالحاضر، ويضع الإنسان في صلب اهتمامات التخطيط والتأهيل.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الأشغال لا تقتصر على إعادة التهيئة العمرانية فحسب، بل تشمل أيضًا تقوية شبكة الإنارة العمومية الذكية، وتنظيم المساحات الخضراء، إعادة تأهيل الطرقات، وتعزيز الساحات بتجهيزات حضرية عصرية تستجيب لحاجيات الراحة والسلامة. كما يتم الحرص على ضمان نظافة الفضاء العام، بالإضافة إلى إنشاء ممرات توجيهية تسهّل حركة الراجلين وتُسهم في تحقيق انسيابية التنقل داخل هذه الفضاءات.
كما حظيت هذه الدينامية العمرانية بإشادة واسعة من طرف الساكنة، التي تُعد شريكًا محوريًا في صيانة الفضاءات العمومية وضمان استدامتها. وتمثل هذه المرحلة محطة مفصلية تتطلب انخراطًا فعليًا ومتواصلًا من مختلف الفاعلين، لضمان استمرار هذا الزخم الإيجابي، وصون ما تحقق من منجزات من كل أشكال الإهمال أو التخريب، التي قد تعيد المدينة خطوات إلى الوراء.
وفي هذا السياق، يظل من الضروري أن يتعامل المواطن مع الفضاءات والممتلكات العامة بنفس الحرص الذي يُعامل به ممتلكاته الخاصة، وعيًا منه بأنها جزء لا يتجزأ من محيطه، وأن صورتها تعكس مدى التزامه الفردي بالمصلحة العامة. فصون المجال العمومي لا يقتصر على الجانب المادي فحسب، بل يُجسّد وعيًا مواطنيًا راسخًا، ويُعبّر عن إدراك جماعي لقيمته كحق مشترك ومسؤولية جماعية.
ويكمن ذكاء هذا المشروع، ليس فقط في هندسته وتخطيطه، بل في قدرته على تعبئة المجتمع وجعل الساكنة شريكًا فعليًا في الحفاظ على ما يتم إنجازه. فحين يُقابل التغيير الحضري بسلوك مجتمعي واعٍ، تتحول المدينة إلى كيان حيّ ينبض بالتميز والابتكار.