المتابع للنقاش الدائر حول مراجعة مدونة الأسرة لا يفوته ان يلاحظ بان هناك شعور قوى بان أطراف الحوار ليست كاملة وان عنصراما مفتقد وهذا ما يعطي الانطباع بان الحلقة غير مكتملة وان جهة مهمة وأساسية في المجتمع المغربي غائبة او مغيبة.
معظم مكونات المجتمع المدني او ما يوصف بانه كذلك تمثل في الواقع واجهة الحداثة التي تكونت في حضن الثقافة الغربية وتشبعت بها ولم يكتب لها ان تعرف المغرب العميق الحقيقي بمميزاته الثقافية وخصائصه التي هي نتاج لتراكمات التاريخ والواقع المعاش والتفاعل مع المعطيات الحياتية التي تختلف كثيرا عما رأته وتعلمته زعامات حركة التغيير الاجتماعية الحقوقية التي تريد ان تقفز ببلادنا إلى مصاف المجتمعات الراقية دفعة واحدة ،في تجاهل كامل لواقع ثقيل وإكراهاته المتعددة.
أريد هنا ان أضرب المثل بحالتين عاينتهماً وجعلاني ادرك حاجتنا إلى التروي والسير بمراحل في مسار التحول .
في احدى قرى بني ملال شاءت الأقدار ان احضر جنازة احد الأقرباء ، وقد عمد الورثة بعد إتمام مراسم العزاء إلى تقاسم الإرث وكان معظمه ارضاً زراعية. وقد دهشت حينما علمت بان القسمة لم تشمل سوىً الذكور من الأبناء دون البنات ، لم اخف دهشتي واستنكاري للأمر وعملت على توعية البنات بحقهن الشرعي. وكان جوابهم ان التقاليد هناك لها حرمتها . وان الأغراب لا يمكن ان يفهموا أسباب تلك العادات .
احدى بنات الهالك شرحت امورًا كنت اجهلها جعلتني أعيد التفكير في معرفتنا بخصائص مجتمعنا .
قالت لي الفتاة بان الأرض هي عصب حياة الأسرة لان. الفلاحة هي مصدر العيش الأساسي وعصب الوجود. ومن تم يحرص الناس على الحد من تفتيتها وتقسيمها بوصفها وعاء العائلة وموطنها وبزوالها تزول من الوجود.
اما تخصيص الإرث للذكور وحدهم فان مبرره تحملهم لمسؤليات حماية كل أفراد العائلة والقيام مقام رب الأسرة الأصلي .
أنا تقول الفتاة ، ” تزوجت وتوفى عني الزوج تركت لي ثلاثة أولاد بدون اي مورد ،فعدت إلى بيت أبي حيث أعيش مع أولادي في كنف اخي الأكبر الذي يتحمل مسؤوليات إعالة وتربية أولادي . ولدينا ايضاً احدى اخواتي مطلقة ببنت هي ايضاً عادت الي البيت وتعيش بكيفية عادية وكان أبي ما زال موجودا . وسألتني ؛ ماذا لو كنا قد أخدنا حقنا من الإرث وصرفناه ؟ هل كنا سنأتي عند احد اخوتنا ليكلفنا؟ ”
الواقعة الثانية هي ايضًا من البادية حيث صادف ان اجتمعت بأحد كبار الفلاحين وجرى الحديث عن اقتراح المساواة في الإرث ، والى جانب رأيه هو ايضاً في كون الذكر يحمل مسؤوليات أسرية لا تحملها الأنثى فضلا عن كون الأحكام الإلهية لا تناقش فإنه يرى. ان دعاة المساواة يريدون فرض حق على حساب حق آخر من حقوق الإنسان .فانا مثلا صاحب الحق الأوحد في ممتلكاتي ولا احد غيري مسموح له بخرق حق الملكية المقدس في جميع القوانين والشرائع .فاذا مت فأنا اسلم بتطبيق الشريعة في تركتي وليس لاحد ان يغير من ذلك .فاذا طبق مقترح المساواة فهو تعد صارخ على حقي . اما إذا أردت ان اخص احدى بناتي او أولادي بشئء فالشرع يعطيني اكثر من حل مثل التفويت بالبيع او الهبة او غيرها .
من الطبيعي ان اصحاب مقترحات التعديل لا يتصورون في واقعهم الحداثي ان يأتي عليهم يوم تعود فيه إحداهن إلى دار اخيها باربعة أولاد بعد ان تطلق او يموت عنها الزوج وتدفع الباب لتستقر .
استغفر الله : هؤلاء لا يتزوجن وان فعلن لا يلدن وان ولدن فكثيرة هي جمعيات دعم الأمهات العازبات التي تحملهن على اكف الراحة.
أيها المشرعون ،ابقوا أرجلكم على الأرض ولا تنسوا ان في المغرب شعب لا تعيش اغلبيته حياة الناس في باريس ولندن ونيويورك .