أكد محمد يحيا، أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بطنجة وعميد سابق لها، أن أهمية تعديل القاسم الانتخابي تندرج في سياق فتح المجال أمام جميع القوى السياسية للمشاركة في صياغة واتخاذ القرار من خلال المؤسسة التشريعية، وباقي الهيئات التمثيلية الترابية، للانتقال من الديمقراطية التمثيلية (démocratie représentative) إلى ديمقراطية الانخراط (démocratie d’adhésion).
وأوضح يحيا، في مقال تحليلي بعنوان “الأبعاد الموضوعية للقاسم الانتخابي بين فحوى الدستور والممارسة الانتخابية”، أن هذا سيؤدي بالإضافة إلى المساهمة الواسعة في تحقيق المشاركة في القرار داخل المؤسسة التشريعية، إلى تجسيد الإجماع والتوافق في تبني القوانين بين الأغلبية والمعارضة.
وسجل أن البعض قد يقول إن “المسألة قد تؤدي إلى بلقنة المشهد السياسي ما سيصبح معه صعبا تشكيل تحالفات حكومية قوية بعد الانتخابات وانعكاساتها سلبا على الانسجام الحكومي”، مضيفا أن “هذا الأمر يعتبر في الوضع الراهن من باب تحصيل الحاصل، وبالتالي لا يمكن إثارته كسبب منطقي لانتقاد اعتماد قاسم انتخابي جديد، أو القول بأنه يؤدي إلى الإجهاز على انتظارات وتطلعات المواطنين”.
وتابع أن القاسم الانتخابي يعتبر من النقاشات التي استأثرت باهتمام الرأي العام قبل الانتخابات التشريعية المقبلة، إذ أن النقاش بهذا الصدد لا يمكن أن يكون مقتصرا على الإشكاليات التي تطرحها ضرورة اعتماد قاسم انتخابي جديد، بل يتعداه إلى تحليل واقع الساحة السياسية الوطنية بما تحمله من إيجابيات وسلبيات، ليشكل مجالا خصبا للتحليل والقراءة بالنسبة للذاكرة الجماعية الوطنية لمختلف الفرقاء والتنظيمات السياسية بما فيها تلك التي غالبا ما كانت تدعو لمقاطعة الاستحقاق.
وأوضح أن السبب الأساسي وراء النقاش الواسع للتعديل الذي قدمته 7 أحزاب مغربية على القاسم الانتخابي، يجد مرتكزاته في النتائج المتوخاة من هذا التغيير لتحقيق تمثيلية موسعة للناخبين برسم الدوائر الانتخابية الوطنية والمحلية، تجسيدا لانتخابات حرة ونزيهة وتكريسا لمسلسل الخيار الديمقراطي وفق المعايير المتعارف عليها دوليا، مضيفا أن “التعددية السياسية وحدها تبقى الضامن لتجويد الهندسة الانتخابية لدولة تؤمن بالتعددية السياسية، لأن نظام الحزب الوحيد يعتبر غير مشروع وذلك ما أكدته الدساتير المغربية المتعاقبة منذ أول دستور للمملكة سنة 1962″.
وأشار الأستاذ الجامعي إلى أن القوانين الانتخابية هي جزء لا يتجزأ من اللعبة السياسية المعتمدة في الأنظمة الديمقراطية للتعبير عن انتظارات وتطلعات الناخبين (جميع المواطنين) الذين لهم الحق في التصويت، واختيار من سيمثلهم ومن سيزاول السلطة باسمهم. ومن هذا المنطق تختار كل دولة ما يلائم خصوصياتها بالنظر إلى واقع وحجم التمثيلية داخل المؤسسات و المردودية المحققة في أفق الإجابة على سؤال: هل يجب تقليص عدد الأحزاب داخل المؤسسات ؟ من خلال مثلا اعتماد نظام أكبر معدل، أو وضع عتبة انتخابية تشترط فقط الحصول على نسبة معينة من الأصوات، وبالتالي توسيع دائرة التمثيل الحزبية داخل المؤسسات المنتخبة لتشمل جميع الأحزاب، حيث جميع التيارات السياسية يجب أن يكون لها حضور يوضح وجهة نظرها والمساهمة في جميع القضايا ذات الصلة بالشأن العام …
كما أن واقع المغرب اليوم، يضيف يحيا، يؤكد وجود كتلة ناخبة هامة عازفة عن الإدلاء بأصواتها في مختلف المحطات الانتخابية (الطبقة المتوسطة والنخب المثقفة) ما يعطي صورة غير واضحة عن توجهات ومآل الرأي العام، واستحالة تقييم المشهد السياسي، مشيرا إلى أن “هذه الفئة هي التي توجه الانتقادات لأداء ومردودية عمل الحكومة والبرلمان وأداء الهيئات الترابية المنتخبة وباقي الهيئات الدستورية…الخ، هو واقع تتبناه بقوة في كل ما تدونه وتغرد به بمواقع التواصل الاجتماعي، من خلال رفضها هيمنة تيارات سياسية تحكمت في العملية الانتخابية بواقع مجتمع مدني مزيف مؤسس على العمل الخيري، أو الخطاب الديني، أو المقاربة التضليلية، ما أصبح معه بالنتيجة والضرورة أن الأحزاب السياسية المستفيدة من نمط الاقتراع الحالي لا تهمها ظاهرة العزوف الانتخابي ما دامت هي أكبر مستفيد، مكرسة معاناة المؤسسات و طريقة اشتغالها”.
وعليه، يعتبر الجامعي المغربي، فإن “تغيير القاسم الانتخابي ديمقراطيا مقبول بالمملكة، والدستور إذا كان لم يحدد نمطا للاقتراع، فإنه أيضا لم يتبن أي تصور أو قواعد متصلة تحديدا بالقاسم الانتخابي اللازم أخذه بعين الاعتبار أو تجسيده على أرض الواقع”.
ومضى محمد يحيا قائلا إنه “إذا كان تصويت البرلمان على القواعد المتصلة بانتخاب أعضاء مجلس النواب بما فيها القاسم الانتخابي، هو جزء لا يتجزأ من صلب اختصاص البرلمان، فإن اختصاص المحكمة الدستورية لفحصه مسألة غير قابلة للنقاش لأنه يصدر في شكل قانون تنظيمي، والمحكمة الدستورية حينما تقوم بفحص دستورية قانون تنظيمي، فإنها تعمل على التأكد من: (وجود من عدمه) مخالفات لمضمون القانون التنظيمي مع أحكام وفصول دستورية أخرى، بحثا عن انسجامه مع الدستور باعتباره قانونا صادرا عن ممثلي الأمة”.
وسجل يحيا أن الاحتفاظ بنفس القاسم الانتخابي المعمول به سابقا، “لا يمكن أن يحقق الغايات المتوخاة من العملية الانتخابية التي يجب أن تكون مرآة صادقة ومحفزة للرأي العام وتوجهاته، ووسيلة للتداول على السلطة بين جميع القوى السياسية الحية المؤمنة بنبل العمل السياسي الصادق، لاحتواء انعدام الثقة بين الناخب و المنتخبين وكذا لوضع حد للاحتجاجات الشعبية المواطنة في ظل ضبابية العمل و المشهد السياسي اللذين أصبحا غير قادرين على التمييز السياسي بين اليمين واليسار ، وارتكاز النخب السياسية الحالية الموجودة في مواقع المسؤولية على ما هو انتخابي، ظرفي و آني و تغييب كلي للبرامج السياسية، حيث الأحزاب في قطيعة مستمرة مع الديناميكية الوطنية في غياب كلي لأي مبادرة لمعالجة القضايا الاقتصادية والسياسية و الاجتماعية الآنية، فاسحة المجال لنخبة من التقنوقراط لتحل محلها في تدبير الشأن العام الوطني والمحلي، من باب ما أصبح يطلق عليه :(تحصيل الحاصل)”.
واعتبر أن التأثير الذي سيحدثه القاسم الانتخابي على أساس المسجلين على نتائج الانتخابات المقبلة يتمثل في استبعاد هيمنة حزب أو حزبين على المشهد السياسي الوطني، كما كان عليه الحال بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2011 و2016، موضحا أن اعتماد القاسم الانتخابي على أساس المسجلين، يقلص حظوظ الفوز بمقعدين في نفس الدائرة، وسيقلص الفارق في عدد المقاعد بين الأحزاب. كما أن المقعد الثاني الذي سيخسره الحزب الأول سيذهب في أغلب الحالات إلى لائحة لم تكن لها حظوظ للفوز بمقعد لو تم اعتماد القاسم الانتخابي على أساس التصويت. و”عليه مقارنة مع الانتخابات التشريعية الأخيرة مثلا سيفتقد الحزب الذي تصدر المشهد السياسي إبان الاستحقاقات التشريعية لسنة 2016، 44 مقعدا أي أن مجموع المقاعد التي سيحصل عليها ستكون ما بين 83 و88 إذا حافظ الحزب بطبيعة الحال على كتلته الناخبة”.
كما ستكون هناك، يوضح يحيا، زيادة في عدد الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان خصوصا الأحزاب السياسية الصغرى والمتوسطة، “بمعنى توسيع دائرة التمثيلية الحزبية، وإعطاء جميع التيارات السياسية الحق في المساهمة والمشاركة في بلورة السياسات العمومية، واحتواء ظاهرة العزوف السياسي والانتخابي، واسترجاع الثقة المفقودة بين الناخبين والمنتخبين، ولو نسبيا”. وأضاف أن “هذه المحطة الجديدة من شأنها أن تكون ضمانة حقيقية للاستجابة لمتطلبات الموطنين وأمالهم، والتجسيد الفعلي على أرض الواقع لمؤسسات منتخبة ذات مصداقية وفعالة، بالتصويت على نخب مؤهلة تحظى بثقة وشرعية هذا النظام التمثيلي الجديد الذي من شأنه أن يؤدي بالجميع إلى تحمل مسؤولياته للعب الأدوار المنتظرة منه”.
وتابع أنه على مستوى التجارب المقارنة، “لا توجد في أي دولة من دول العالم تجربة مشابهة للتعديل الذي قدمته أحزاب المعارضة والأغلبية باستثناء البيجيدي، هذا التعديل تم تبنيه لأسباب متصلة بخصوصية النموذج السياسي والدستوري المغربيين، فقبول ولاية حكومية ثالثة لنفس الحزب، مسألة سريالية (2011-2026)، كما أن الثقافة الدستورية في مختلف بقاع العالم لا يمكن أن تقبل بوجود حزب يقود حكومة (غير منسجمة) على مدى 15 سنة. وفرضا في ظل الأوضاع الراهنة واحتراما لمنطوق الفصل 47 من الدستور، فإن حزب العدالة والتنمية في حالة تصدره نتائج الانتخابات المقبلة سيصبح في وضعية شبه مستحيلة، وإن تبوأ المرتبة الأولى، لتشكيل الحكومة”.
وسجل أنه “من غرائب المشهد السياسي الوطني أن تقبل الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية التعديلات الجوهرية المتصلة بالنظام الانتخابي، المقترحة من طرف الوزارة الوصية، ويصادق عليها في مجلس الوزراء والحكومة، ويصوت عليها بالأغلبية في مجلس النواب (162 مع) (104ضد)، ثم بعد ذلك يتم التصدي لها إعلاميا واتهام المؤسسة التشريعية بعدم الاستقلالية؟ بل ذهب رئيس الحكومة إلى حد التأكيد أن القوانين الانتخابية تضمنت تراجعات خطيرة مست بجوهر الاختيار الديمقراطي؟”.
وأكد أن مجموع التعديلات التي عرفتها المنظومة الانتخابية بالمغرب من الأهمية بمكان، استدراكا لبعض الاختلالات والنواقص التي أكدتها الممارسة وتدبير الشأن العام للهيئات المنتخبة، حيث تم التصويت على التعديلات بنعم من طرف 162 نائبا ومعارضة 104، وهي تعديلات همت أساسا القاسم الانتخابي الذي يستخرج عن طريق قسمة عدد الناخبين المقيدين في الدائرة الانتخابية المعنية على عدد المقاعد المخصصة لها، وتوسيع حالة تنافي العضوية في مجلس النواب مع رئاسة مجلس عمالة أو إقليم.
وأشار إلى أنه تم أيضا تبني تصور بديل بالنسبة للدائرة الانتخابية الوطنية التي عوضت بدوائر جهوية، انطلاقا من المكانة الدستورية للجهة في التنظيم الترابي للمملكة مع أخذ بعين الاعتبار معيارين أساسيين: عدد السكان القانونيين بالجهة، وتمثيلية الجهة اعتبارا لمكانتها الدستورية في التنظيم الترابي.
وخلص إلى أن التعديلات همت أيضا إجراءات التخليق في مجال الحملات الانتخابية وإضفاء الشفافية وتحقيق المنافسة المنصفة والشريفة، وضرورة إعداد حساب الحملات الانتخابية، ودعم وضعية المرأة في المشهد الانتخابي تجسيدا لمبادئ المناصفة والتمييز الايجابي التي جاء بها دستور 2011. وهي لحظة متميزة في تاريخ المغرب الحديث لتثمين ودعم التحولات الاجتماعية الكبرى من خلال التغييرات التي تم إدخالها على المنظومة الانتخابية الوطنية من أجل تمثيلية أوسع للشباب والمرأة باعتبارهما مدخلا أساسيا لكل تنمية سياسية، اقتصادية واجتماعية شاملة، وكذا لاحتواء ظاهرة تخاذل الفاعلين السياسيين بعد 10سنوات من التطبيق النسبي لدستور 2011، في أفق تجسيد أمثل، مؤكدا أنه لذلك “يعتبر إصلاح منظومة الانتخابات (لاسيما اعتماد قاسم انتخابي جديد) بداية البدايات”.